سيدخلها بمشيئة الله وكلنا لن ندخل إلا بمشيئته عز وجل...
يعتقد الأطباء أن السبب الرئيسي لحدوث متلازمة داون (الطفل المنغولي) هو وجود ثلاثة كروموزومات (صبغيات) في المجموعة رقم 21 في الخلية (الطبيعي هو كروموزومين) ليكون مجموع الكروموزومات في الخلية 47 كروموزوم بدلاً من 46 كروموسوم.
والدتي الأميّة بنت القرية لا تفهم بالطبع ذلك الكلام ولكن تعتقد جازمةً أن سبب ولادة طارق بهذا الشكل هو رحمة من الله وبركة ليدخل على حياتها السعادة والبهجة والسرور..
ولد طارق مثلنا جميعاً في مدينة الطائف. بعدما راجع والدي الطبيب بطارق بعد ولادته بفتره للكشف عليه، قال الدكتور لوالدي رحمه الله بأن "ولدك مريض. ولدك مش طبيعي وحيبقى طوال عمره مش طبيعي". قال والدي: "الحمد لله على ما أعطى ووهب. لقد رزقني بتسعة أصحاء، فهل أغضب لأجل العاشر؟ الحمد لله على ما أعطى ووهب". كان مقدم طارق على العائلة وقناعة والدي هما مفتاح البركة على منزلنا بلا أدنى شك.
تجمعني بطارق ذكريات طفولة بريئة وكثيرة. كان أطفال الحارة يخشون من الإقتراب منه وكان ذلك يؤلمني. كان يذهب معنا للصلاة في المسجد فنصلي صلاتنا، ويصلي هو صلاته الخاصة التي ابتكرها. يكبّر متى ما شاء ويسلّم متى ما شاء. يركع متى ما يشاء، ويسجد متى ما يشاء. كنا نركع ونسجد ثم نقوم وإذا به لازال واقفاً يتطلع بفضول لمنظر المصلّين وهم ساجدين. يتلفت كثيراً وهذا بالذات كان ما يزعجني ويجعلني أشده من كم ثوبه لتوجيهه للأمام، ولكنه يرفض ويبدأ في الدهس على قدمي. كانت صلاتنا بجانب بعض عبارة عن معركة دائمة تتكرر في كل صلاة.
لا أتذكر عدد المرات التي خرج فيها طارق من منزلنا ولم يعد. فجأة نفتقد وجوده في المنزل ثم ننطلق نطرق أبواب الجيران باحثين عنه. أحياناً نجده عند أحد الجيران، وأحياناً يسبقنا الجيران بالإتصال على والدتي يخبرونها بأن طارق عندهم وهو ضيفهم وسيعيدونه لنا بعد أن ينتهي من شرب العصير وأكل الكعك. وأحياناً يخرج بعيداً عن الحارة لحارة أخرى، وهنا نستعين بالشرطة التي أنقذتنا أكثر من مرّة وسلمته لنا بعدما سلمه لهم أحد أهل الخير. ولكن الموقف الذي لا أنساه حدث عندما كان سائق باص مدرسة المعاقين الذي كان من المفروض أن يوصل طارق للمنزل ظهراً بعد المدرسة، لم يتأكد من خروجه من الباص، وكان طارق نائماً في الباص. وقال لنا طفل جارنا بأنه رأى طارق عند البقالة ولكن هذا الطفل كان كاذب لأن طارق لم ينزل من الباص أصلاً. ولكن وجدناه بعد العشاء نائماً كالملاك في الباص في موقف مدرسة المعاقين. ولكن وجدنا على وجهه آثار الدموع والخوف والصراخ الدائم الذي لم يسمعه أحد منذ أن أقفل سائق الباص سيارته قبل العصر. كلما أتذكر هذا الموقف وحتى الآن أشعر بقشعريرة.
عندما كبر طارق، اقترح بعض الأقارب على والدي أن يرسله لمدرسة التربية الفكرية في جده، ليدرس ويقيم في سكن المدرسة طوال الأسبوع، لأنهم سيعلمونه القراءة والكتابة والنطق كما كانوا يقولون. كان يوم الأربعاء هو أفضل يوم عندي بلا شك لأنني أخرج من المدرسة في الطائف متجهاً مباشرة إلى جده لأخذ طارق من مدرسته والعودة به. كانت رؤية ملامح وجهه وسروره بمقدمي عند غرفة المدير لا تعدلها فرحة. فينطلق ليحضنني ويقبلني بقدر ما يستطيع. نعود فوراً بعدها من طريقنا إلى الطائف الذي تنتظرنا فيه والدتنا التي يعود إليها فؤادها برؤية طارق كل يوم أربعاء. ولكن يوم الجمعة كان اسوأ يوم لأنني مضطر لإعادته لمدرسته في جده. فكان يركب معي السيارة من الطائف ولا يعلم أننا متجهين لجده لإعادته للمدرسة. وعند رؤية طرف جدار المدرسة من تحت إشارة كوبري شارع قريش ينطلق طارق في الصراخ والبكاء والتوسل لي لكي لا أعيده. كنت لا أسلمه للمدرس الذي يستقبلنا إلا وأنا أبكي وهو يبكي لأن المدرس يضطر لجر طارق جراً لفك تمسكه بي. وهذا البكاء يستمر معي لفترة وأنا في طريق عودتي للطائف.
وفي يوم أربعاء لا ينسى، كنا عائدين أنا وطارق من جدة إلى الطائف كلنا سرور وفرح. وعندما وصلنا للمنزل مع أذان المغرب، إذا بي أشاهد جميع أنوار منزلنا مضاءة وهناك زحمة سيارات شديدة حول المنزل. استغربت من هذا التجمع وتوقعت أن لدينا عزيمة كبيرة لأن جميع أضواء فناء "حوش" المنزل لا تضاء إلا وعندنا عزيمة كبيرة. ولكن العادة جرت أن لا نضيئها إلا مع أذان العشاء وليس المغرب. ترجلت أنا وطارق ومعي شنطته في يد وفي اليد الأخرى يد طارق. وبمجرد دخولنا فناء المنزل وإذا بأخينا الأكبر يأتي مهرولاً و يحضنني بقوة ويقول بصوت باكي: "أبونا مات.. الله يرحمه". من الطبيعي أن أقول بأنه لا يوجد هناك كلمات يمكن أن تشرح ما مررت به حينها.
والدي رحمه الله توفي عن عمر الخامسة والسبعين. لم أعلم بعمره إلا بعد وفاته لأنه كان في نظري أصغر من ذلك بكثير. والسبب، أنه عند عودتنا من كل صلاة كنا بمجرد دخول فناء المنزل أتجه لإلتقاط الكرة وأعطيها له وأتمركز في المرمى الوهمي الذي أصنع حدوده من حذائي. ثم يبدأ في ركل الكرة وأنا أتصدى لها (ضربات جزاء) مع تعليقات ساخرة بيني وبينه. ولا نتوقف حتى يعلن هزيمته وتعبه. كنا نفعل ذلك حتى وفاته وأنا في السنة الثالثة من المرحلة المتوسطة. هل تعرفون أباً يلعب كرة قدم مع أطفاله وهو في الخامسة والسبعين من العمر! ربما ذلك يعطيكم إيحاء عن أي نوع من الآباء كان هو.
بعد ذلك اليوم، لم يعد طارق لمدرسته في جده. لقد فقدت والدتي حبيبها ورفيق حياتها فأبقت حبيبها طارق بجانبها منذ ذلك اليوم ربماً خوفاً من فقدانه أيضاً.
في لحظة صدق وتجلّي أقول أنني أعتقد بأن صراخ طارق وبكاءه واستصراخه واسترحامه لي عندما كنت أعيده لمدرسته كل يوم جمعه لا يمكن أن يزول من ذاكرتي ما حييت. علمنا لاحقاً بأن المدرسين في تلك المدرسة كانوا عبارة عن وحوش وليسوا بشر بسبب غلظتهم وسوء معاملتهم للطلاب من ذوي الإحتياجات الخاصة. كان طارق يتمنى أن لا أعيده لأولئك الوحوش ولم يكن يجيد التعبير عن ذلك ولذلك لم أكن أسمع له. ربما كان ذلك سبب تعاطفي الشديد مع المسجونين الإصلاحيين الذين دافعت عنهم في مدونتي بما أستطيع، ودخلت السجن بسبب ذلك، حيث كنت أستذكر كيف كنت أخذل طارق وأتركه وحيداً يصارع أولئك الوحوش فلم تسمح لي نفسي وكرامتي نسيانهم في سجونهم مظلومين.
أخي طارق.. الفتى الذي نأمل أن يكون شفيعاً لنا كعائلة يوم القيامة، يعيش حياة مرفهه. كل طلباته مستجابه. لديه جوال خاص به، وتلفزيون، وساتالايت قنوات المجد الذي يحتوي على قناة الأطفال المفضلة لديه. والدتي محافظة لأبعد الحدود. أتذكر أننا عدنا يوماً من المدرسة ونحن صغار جداً فلم أجد التلفزيون. كان المد الصحوي في عز مجده ووصل وتغلغل لمنزلنا. قالت لنا والدتنا بأن التلفزيون من عمل الشيطان ومصدر للشر كما أقنعها أخواتنا الكبار الذين تطوع أزواجهم. لذلك فإن والدتي لا تسمح لطارق حتى اليوم سوى بقنوات التلفزيون السعودي وقنوات المجد ويبدوا أنها تكفيه.
وبسبب كثافة مشاهدته للتلفزيون السعودي فهو يحب الأغاني الوطنية بشدة. ويحب الملك عبدالله بشده وكذلك الأمير سلطان! ووالله لو شاهدتموه وهو يقلد "خلف بن هذال" ببراعة مذهلة مع كلمات لا يفهمها أحد ولكنها بنفس أسلوب نغمة إلقاء خلف بن هذال لأصابكم الإنبهار والضحك.
ويمتلك طارق جميع أشرطة الأناشيد الإسلامية التي في السوق. ولديه بالطبع سوني بلايستيشن وجميع أشرطتها. لديه صومعة خاصة به (غرفته) والتي تحتوي على كل ألعابه وأغراضه ولا يدخلها أحد إلا بإذنه. ولديه دفاتره وأقلامه وعدة الألوان والرسم. وأجده دائماً يعيد كتابة كلمات كتاب أمامه. كلما إنتهى من كتاب، أحضر كتاب آخر وبدأ يكتب في الدفتر نفس نصوص الكتاب الذي لا يفهم منه شيء وبجانبه صوت الأناشيد الإسلامية تصدح. ولديه سائقه الخاص الذي يذهب به لبيوت العائلة وأقاربنا متى ما شاء لزيارتهم واللعب مع أطفالهم.
طارق يحب الأكل كثيراً. وعندما يذهب للمطاعم القريبة لمنزلنا في الطائف فإنه ينتقي ما يشاء. فيذهب للمطعم الأول ويطلب شاورما، ثم يمر على الآخر ويطلب نصف دجاجة مع الرز، ثم يعرج على الثالث ويطلب بيتزا وبروست وهكذا. جميع عمال المطاعم أصدقائه ويحبونه ويلبون كل طلباته ورغباته. وعندما يعود للمنزل يأكل لقمة من كل نوع ثم تقوم الخادمة بأخذ باقي الأكل ووضع شيء منه في الثلاجة وتوزيع الباقي على العمالة البنغالية التي تجلس في الشارع بجانب المنزل لتقوم بغسيل سيارات أهل الحي.
لطارق لحية صغيرة تشبه لحى الصينيين المسلمين. هو مقتنع بها تماماً لأنها تشعره بالرجولة كما تقول له دائماً والدتي. ووالدتي دائماً ما تعيرني بسبب حلاقتي للحيتي وشاربي وتقول "أطلقها وخليك زي طارق الرجال البطل". وبالطبع تظهر الإبتسامة والضحكة الساخرة مني على وجه طارق عندما يسمع تلك العبارات. ولكن تلك اللحية لا تعني بالضرورة أن طارق "مطوع" و "ملتزم". فقد اكتشفت لديه تحت سريره وفي صندوقه الخاص صور نساء فاتنات جميلات قد اقتطعها بشكل يدوي عشوائي من أغلفة مجلات "اليقظة" و "سيدتي" و "لها". وعندما سألت عامل البقالة عن شراء طارق للمجلات، قال لي بأن طارق دائماً يشتري المجلات ويقتطع صور النساء ويخفيها في جيبه ويترك المجلات عند صاحب البقالة في إتفاق سرّي بينهم.
طارق الفرحان.. الفتى الذي إذا ما تعرفت عليه وحاولت أن تتحدث معه فإنك ستحبه من كل قلبك كما لا تحب بشر آخر. بالنسبة لي هو أعلى درجات الإنسانية. منه ومن أمثال قبيلته المنغوليين، نستمد نحن باقي البشر الذي ندعي أننا "عقلاء" معاني الطيبة والبراءة. طموحاتهم بسيط وأحلامهم شبه معدومة. لا يحسد ولا يحقد وإذا أراد أن يكذب فإن الكذب لا يكاد يخرج من فمه إلا وقد سبقته ملامحه لفضحه.
طارق لا يحلم بمجتمع تترسخ فيه معاني العدالة، والحرية، وكرامة الفرد، والمساواة، وحفظ الحقوق، ونصرة المظلوم، وإغاثة الملهوف. بل إنه جزماً لا يفهم تلك الأمور كلها. وطارق لا يعيش هم أهله وناسه وأقاربه ومجتمعه ومستقبلهم. وطارق بالنسبة لي، محظوظ جداً فهو لا يخشى الموت ولا الحساب والعقاب ومحاسبة الرب في يوم القيامة. فهو سعيد في حياته وسيكون سعيداً في آخرته.
من هو الأكثر حظاً؟ أنا وأنتم أم هو وقبيلته المنغوليين؟ وأنا صادق فعلاً عندما أقول أنه محظوظ. فهو لا يرى الظلم أمام عينيه ويسكت عنه. ولا يرى ضياع جيل وسرقة مقدرات شعب وقهر للرجال ولذلك ليس لديه هم. وطارق محظوظ أيضاً لأنه لم يظلم أحد ولم يقهر أحد ولم يسلب أحد حقه في التعبير عن رأيه وقناعاته الذي منحه له خالقه.
فيا ما أسعد طارق وأمثال طارق وويل للظالمين، وويل للمنافقين، وويل للمتملقين الكاذبين، وويل للمستبدين. وأعاد الله كل مظلوم وسجين وحبيب لأهله ومحبيه.
فؤاد الفرحان