حين كنت أتشاجر مع أخي نويصر- فأركض وقد خطفت شماغه في لعبة تحدّ لأختبئ خلف ستارة المجلس حيث تجلس أمي.. كانت أمي تفضحني وتدل على مكاني حين تردد وهي تحتسي ق***ها ببرود..
- يا بنيتي.. اعقلي.. اعقلي هداك الله..
فيصرخ ناصر مكتشفاً أني في الغرفة ليجري نحوي ويخنقني داخل الستارة التي اختبأت خلفها..
- يمممممممممه.. الحقيني سأموت!
- تستاهلين..
وحين يأخذ شماغه ويخرج منتصراً كنت أصرخ خلفه مهددة إياه بالانتقام في المرة القادمة.. لكن ما أن يلتفت نحوي بعينيه الغاضبتين - (بمزح) – وملوحاً بعقاله.. حتى أجري لأختبئ خلف ظهر أمي..
لم تكن معاركي اليومية مع نويصر أو سويلم أو سعيدان شيئاً يذكر.. كانت روتيناً يومياً بسيطاً وجزءاً من حياتي اليومية..
فقد تربيت كفتاة وحيدة بين أربعة أخوة ذكور.. وفي الحقيقة فإن لي أختاً واحدة لكنها أكبر مني بكثير فهي الكبرى وأنا الصغرى.. وهي متزوجة وتعيش في مدينة أخرى منذ زواجها.. ولا تأتي سوى في الأعياد وفترة من الصيف..
حين كنت في المرحلة المتوسطة كان واضحاً عليّ بأني أخت الأولاد.. فقد كنت لا أهتم بمظهري.. وتصرفاتي خشنة بل متهورة كثيراً ولا تليق بفتاة..
تقول أمي أن هذا لا علاقة له بكوني أختاً لفتيان.. ولكن طبيعتي – على حد قول أمي – هي الحمق والتهور..
ويرجع هذا حسب نظرية أمي البيولوجية الوراثية لانجراف جيناتي الوراثية لعمة من عمات أبي رحمها الله.. كانت مشهورة بالحمق والتهور ولها آثار شهيرة في ذلك المجال..
وفي محيط أقاربي كنت مشهورة بلقب لم أكن أكترث له وهو (الخبلة) .. فقد كانت لي العديد من المواقف الشهيرة التي انتشرت عبر أفراد الأسرة وساعدت في ترسيخ ذلك اللقب وإلصاقه أكثر فأكثر بي..
ومن تلك المواقف.. ضياعي ذات مرة في حديقة الحيوانات.. وركوبي لدراجة أخي النارية في البر والتي انطلقت بها بسرعة جعلتني أخترق خيمة الرجال!!
وضياعي في الحرم بسبب لحاقي امرأة اعتقدتها أمي.. هذا سوى المواقف التي صنعت فيها كعكة حجرية وقدمتها للنساء.. وسوى تقديمي للقهوة باليد اليسرى أو سكبي للعصير على أكثر من امرأة.. فهذه أمور عادية..
وكما ذكرت.. حتى نهاية المرحلة المتوسطة لم يكن هذا العيب يسبب لي أي حرج.. فقد كنت أضحك مثلي مثل الآخرين على عيوبي ومواقفي المضحكة..
وقد ساعدت أمي للأسف على ترسيخ تلك الفكرة عني لدى الآخرين.. وهي أني متهورة وحمقاء ولا أجيد أي شيء جاد.. وكانت تهزأ بي كثيراً وتذكر كل عيوبي وحركاتي الغبية أمام الآخرين لتضحكهم عليّ..
لكن.. شيئاً فشيئاً..
بدأ شيء ما في داخلي ينمو.. ويتغير..
منذ دخلت المدرسة الثانوية.. وبدأت أتعرف على الكثير من الفتيات المؤدبات والعاقلات وأنسجم معهن.. بدأت أشعر بأنوثتي.. وبأنني أريد فعلاً أن أكون مثلهن.. فتاة راقية عاقلة رقيقة..
بدأت أراقب تصرفاتهن المهذبة.. واهتمامهن بمظهرهن.. وحديثهن.. وشعرت بالنشوة لأني أصبحت أحاول أن أكون فعلاً فتاة حقيقية..
كانت لبعض زميلاتي اهتمامات رائعة كتبادل الكتيبات النافعة وحضور جلسات المصلى..
وأصبحت أقلدهن وأذهب معهن..
ثم بدأت.. أسمع.. أخبار خطبة فلانة.. وعقد زواج فلانة.. وما أن وصلت للصف الثاني ثانوي.. حتى بدأت أسأل أمي بحماقتي السابقة التي لم أتخل عنها بعد..
- أمي.. مممم.. ألم..
أقصد..
- ماذا قولي.. ماذا لديك؟
- أردت أن أقول.. ألم يتقدم أحد لخطبتي؟
ضحكت أمي معتقدةً أني أمزح معها.. فنثرت في وجهي بقية الماء البارد الذي كان في قاع الكأس وهي تبتسم..
- كفي عن مزحك!.. ألن تعقلي؟
- أمي! أنا لا أمزح.. فقط أسأل..
لم تصدقني أمي واعتقدت أني فعلاً أمازحها فتركتني لتكمل عملها في المطبخ..
وبعد أيام لم يكن من المستغرب أن تنشر أمي الخبر أمام أقاربها.. " سويّر" الخبلة تبحث عن عريس!
كانت أمي لا تزال تنظر إلي كطفلة صغيرة.. دون أن تعرف أنها تحرجني وتساهم في تحقير صورتي أمام الآخرين..
يوم أن أخبرتني خلود بما ذكرته أمي في الاجتماع العائلي عني.. أخذت أبكي بحرقة لأن أمي فضحتني دون أن تشعر.. وساهمت في ترسيخ صورة (الخبلة) التي تأبى أن تمسح من أذهان من يعرفونني..
تخرجت من الثانوية.. ودخلت الكلية.. لكنني كنت لا أزال أعاني من عقدة (الخبلة) فقد أدى ذلك لجعلي مهزوزة الثقة بنفسي.. ضعيفة الشخصية.. سريعة التأثر.. ومتهورة فعلاً..
كنت أخاف من الالتزام بأي مسؤولية كبيرة لأني أخشى أن أضيعها وأفسدها..
وكنت أحتقر نفسي ولا أرى أني أستحق أي فخر في هذه الحياة..
لكني كنت لا أزال أواظب على حضور جلسات المصلى التي كنت أحبها كثيراً..
وذات يوم عرضت عليّ إحدى الأخوات جزاها الله خيراً أن ألقي كلمة بسيطة..
- لاااااا.. لا يمكن.. أنا؟!!
- نعم أنت وماذا في ذلك..
- لا.. لا.. لا أصلح..
سيضحك الناس عليّ..
- ولماذا يضحكون؟ كلامك جيد ولست أقل من غيرك ولله الحمد..
- لا.. لا.. لا يمكن.. أنت لا تعرفين.. أنا.. أنا.. آآ..
وتلعثمت قليلاً لأني كدت أن أقول.. أنا (خبلة).. !!
لكنها أصرت عليّ ووضعتني أمام الأمر الواقع وذكرتني بالأجر العظيم الذي ينتظرني.. وأن الدعوة لله واجب على كل مسلم صغير أو كبير.. كما أن كل من سيستمع إلي هم بشر مثلي..
شعرت برهبة شديدة لكني تماسكت.. وأخذت أجهز لإلقاء الكلمة قبل أسبوع.. ولم أخبر أمي.. لأني كنت متأكدة أنها ستحبطني وتضحك عليّ لو أخبرتها مما قد يقلل من ثقتي بنفسي..
وفي ذلك الصباح.. كنت متوترة مشدودة الأعصاب.. كيف ستكون كلمتي؟ هل سيضحكون عليّ؟ هل سأتلعثم أم سأسقط السماعات أم سأتعثر وأقع أمامهم على الأرض..أي نوع من الحمق سيظهر أمامهن.. لكني ذكرت الله وحاولت أن أثبت نفسي..
وعندما استلمت الميكرفون وابتدأت باسم الله.. كان صوتي يرتجف.. لكنني دخلت في الموضوع..
وبدأت أتحدث عن أسباب سعادة الإنسان.. وأسباب انشراح صدره..
ووجدت نفسي أنسجم في الموضوع حتى ذكرت بعض القصص التي لم أكن قد جهزتها.. وأخذت أضرب الأمثال والجميع منصت باهتمام.. استمريت بانفعال وحماس..
وبدا من وجوه الحاضرات الاستمتاع بالكلمة.. حتى أن الساعة أشارت على بدء وقت المحاضرات لكنهن لم يقمن من أماكنهن حتى انتهيت وختمت كلمتي بالصلاة على رسول الله..
- جزاك الله خيراً..
- أسأل الله أن يجعلها في ميزان حسناتك..
كلمة طيبة ومؤثرة بارك الله فيك..
هكذا اقتربت مني بعض الحاضرات وهن يبتسمن شاكرات وممتنات بصدق..
لم أصدق نفسي.. كان ذلك شيئاً لا يصدق.. هل فعلت شيئاً جيداً لأول مرة في حياتي.. هل فعلت شيئاً يستحق الفخر؟ لا أصدق.. سارة الخبلة.. التي كانت طوال عمرها مثار الضحك والسخرية.. أصبحت قادرة على إلقاء كلمة..؟!
حينها فقط.. وأنا أمسح دموعي بهدوء دون أن يراني أحد.. عرفت جيداً.. أن الإنسان هو من يصنع نفسه إذا أراد – بإذن الله..
الإنسان هو من يقرر ما إذا كان يريد أن يصبح عظيماً أم لا..
مهما كانت الظروف من حوله تقنعه بأنه صغير..
و.. لا شيء..
**
مجلة حياة العدد (42) شوال 1424هـ